المراة في المجتمع البدوي
صفحة 1 من اصل 1
المراة في المجتمع البدوي
المرأة في المجتمع البدوي:
كانت التقاليد الاجتماعية أكثر بروزاً وصرامة في شعر شعراء البادية الذين عرفوا بالشعراء أو العشاق العذريين نسبة إلى قبيلة "بني عذرة" التي اشتهرت بكثرة عشاقها المتيّمين، فضمّ إليها الباحثون كل من سلك في الحب هذا المسلك وإن لم يكن منها. ولم تسمح هذه البيئة لأبنائها بالذي سمحت به الحواضر ولاسيما مدن الحجاز الطيبة، فعاش أبناء البادية في غلظة وجفاء، وتشربوا تعاليم الدين الإسلامي على ظمأ، وضاقت بهم سبل الرزق، فقد استمر الوضع الاجتماعي والاقتصادي لأبناء البادية رعوياً فقيراً على ماكان عليه في العصر الجاهلي، وظل أبناء البادية يتحمّلون قسوة الظروف من أجل تحصيل رزقهم، وبقيت أفكارهم وأحلامهم ضمن حدود مراعيهم، بعيداً عما يدور في مدن الحجاز من صخب الحضارة والمدنية ورنين الأصوات والأموال، وعمّا يدور في الحواضر الأخرى كدمشق، حيث الحكم والثراء والترف.
وقد خرج من أهل البادية كثيرون إلى الأمصار المفتوحة مجاهدين وغير مجاهدين، واستقروا فيها، كما استشهد كثير من أهلها في الفتوحات، فخلّف ذلك كله في النفوس حزناً وكآبة ومرارة.
ضمن هذه الشروط الاجتماعية عاشت المرأة في البادية، فلم تظفر بما ظفرت به أختها الحضرية من التحرر الاجتماعي، ولم تُتح لها الفرصة للتعبير عن حياتها ونفسها تعبيراً مباشراً، وإنما انعكست حياتها في رأي الشاعر العذري وفكره، وبدت "ضرورة لاغنى عنها، ورفعت إلى مستوى المثال وبولغ في تقديرها"[1])، فكانت موضوعاً لهؤلاء العذريين ومحوراً لإبداعاتهم بل كانت ملهماً لهذا الشعر ومحرضاً عليه. وقد مثل هؤلاء الشعراء نوعاً من "المواجهة" بين الحب وتقاليد المجتمع ومفهوم ذلك المجتمع عن الحب"[2])كما سنرى، فقد كانت المرأة شديدة المنعة في هذا المجتمع، وعلى من يحبها أن يحسب ألف حساب، لأن خبر حبه لها يعني نهاية قصة الغرام، وبداية اليأس والتعاسة. وتكشف قصص هذا الحب -على الرغم مما بينها من فروق- عن تجارب عاطفية مخفقة، لا تشذّ عن ذلك قصة واحدة.
فنحن في كل قصة نرى شاعراً تغنى بحبه، فكان نصيبه منه الحرمان، وظل بقية أيامه يردد أغنية الحب الأولى ويتذكرها، ويبث عبر الذكرى أمنياته، ويبوح بسريرة نفسه، ويتجه بشكواه وذكراه إلى المرأة التي أحبها متوسلاً ومتضرعاً عسى أن يكون وراء كربه وغُمته الفرج القريب.
لكن هل أصغت محبوبات هؤلاء الشعراء إلى شكواهم؟ ومامدى استجابتهن لها؟ وماذا فعلن من أجل هذه العلاقة العاطفية؟
نستطيع تصور المرأة في شعر الحب العذري امرأة مكبلة بكبولٍ ثقيلة جداً من أعراف البيئة وتقاليدها وقيمها الأخلاقية السائدة. فليس تسمح لها هذه العادات بالتفكير مفردة أو بالتحرك خارج نطاق أسرتها. وأكبر دليل على هذا أن هؤلاء المحبوبات قد تزوجن خارج تجربة العشق التي أدت إلى اشتهارهن فكان قيد الزواج أكثر صلابة وغلظة من قيد المجتمع وعاداته، فكثر في ديوان الشاعر العذري الحديث عن الصد وعدم الاستجابة، يرد في شعر كثيّر قوله:
إلينا وأمّا بالنّوالِ فَضَنَّتِ
وما أَنصفَتْ أَمّا النساءُ فبغَّضَتْ
قريشٌ غَداةَ المأزمين وصَلّتِ
فقد حَـلَفَتْ جهداً بما نَحَرَتْ لَهُ
كناذرةٍ نذراً وَفَتْ فَأَحَلَّتِ[3])
وكانت لقطعِ الحبلِ بيني وبينها
ويذكر أيضاً إعراضها وتمنعها في القصيدة ذاتها:
من الصُمِ لو تمشي بها العُصمْ زَلَّتِ
كأني أُنادي صخرةً حينَ أَعرضَتْ
وفي شكواه لها تثبيت لتضرعه وامتناعها، وعدم اشتراكها في المبادلة الوجدانية والإنسانية، وهذا ما يؤكده في قوله:
إلى ميِّتٍ في قبرِهِ لبكى لِيا
أَيا عزَّ لَوْ أشكو الذي قد أَصابني
إلى راهب في ديره لرثى ليا
ويا عزَّ لو أشكو الذي قد أصابني
إلى جبل صعب الذرى لانحنى ليا[4])
ويا عزَّ لو أشكو الذي قد أصابني
وليس حال الصمة القشيري مع حبيبته أفضل من حال كثيّر، فإنها لاتبادله مشاعره ولا تستجيب:
ولا عند ريّا للمحبِ جَزاءُ[5])
لَعْمُرُكَ ما ريّا بذاتِ أَمانةٍ
وهي كذلك عند عروة بن أذينة:
منّا وأَعجبَها البعادُ فما لَها[6])
صرمَتْ سعيدةٌ وُدَّها وخلالَها
ولكن بثينة في شعر جميل تبدو على شيء من الجرأة والإحساس بالمكانة والنّدية والمبادلة مع جميل فهما كثيراً ما يبدوان في حوار عن الأهل والوشاة ومستقبل العلاقة والعتاب. وفي أبيات غير قليلة تبدو بثينة كأنها زوجة لجميل، فهل كانت حقاً كذلك فنردّ كل ما قيل عن عذرية العلاقة التي لم يتحقق فيها الزواج؟. أم أنها أحلام جميل التي صورت له بثينة على أنها زوجة أو كما يجب أن تكون في نهاية المطاف؟ إنه يعلن في البداية عن الأمنية:
من النورِ ثم استعرضَتْها جنوبُها
فما مزنةٌ بينَ السّماكينِ أومضَتُ
من الناسِ أوباشٌ يُخَافُ شغوبُها
بأحسنَ منها يوم قالَتْ وعندنا
إلى يومِ يَلقى كلَّ نفسٍ حبيبُها
تعاييتَ فاستغنيتَ عنّا بغيرِنا
نصيبي من الدنيا وأَنيَّ نصيبُها [7])
وَدِدْتُ ولا تُغني الوِدادةُ أَنَّها
ثم نتابع أبياته بعد هذه الأمنية، التي يصرح فيها برجاء أن تكون من نصيبه، فنراه يؤكد لها أن جلداً غير جلدها لم يمسه محاولاً التأثير فيها يقول:
فإذا كنتُ فيها كاذباً فعميتُ
حلفتُ يميناً يا بثينةُ صادقاً
وباشرَني دون الشعِّارِ شريتُ[8])
إذا كانَ جلدٌ غير جلدِك مَسَّني
ويبدو أن مشكلة ماقد حصلت بينهما أدت إلى الخصومة التي أثمرت أشعار الفراق واليأس والحزن، فنراه يطلب وجود حكم من أهلها لتسوية الخلاف قبل أن يستفحل:
وشرُّ الناسِ ذو العِللِ البخيلُ
وقلتُ لها: اعتَللتِ بغيرِ ذنبٍ
وأهلِكِ لا يَحيفُ ولا يُميلُ
ففاتيني إلى حَكمٍ مِنَ أهلي
ولا يدري بنا الواشي المحولُ
فقالت أَبتغي حَكَماً مِنَ أهلي
أخا دُنيا له طرفٌ كليلٌ
فولّينا الحكومةَ ذا سجوفٍ
وأنتَ بما قضيتَ بهِ كفيلُ[9])
فقلنا: ماقضيتَ به رضينا
تظهر في الأبيات بعض التعاليم القرآنية، في الاحتكام إلى الأهل في حالة نزاع الزوجين، ونلاحظ أنها فضّلت أن يكون الحكم من أهلها، فلو لم تكن العلاقة معلنة وشرعية، فهل كانت ستطلب أن يكون الحكم من أهلها؟ هل من المألوف أن تطلب هذا الطلب لو أن العلاقة علاقة حب في هذا المجتمع البدوي المحافظ الذي يحاط فيه الحب بالكتمان والسرية عن الأهل خاصة حتى لايحول الإجهار بالعلاقة وذكر المحبوبة إلى حرمان أبدي؟
ألا يحق لنا التساؤل عن هذا؟ ثم ترد بعض الأبيات التي تشير إلى أن الخصومة قد وقعت، ولم ينفع احتكامها إلى الحكم في إصلاح ماكان من خلاف بينهما، ولم يجنيا سوى الندم المرّ على ماكان، فقد تزوجت بعدئذ، ولكننا نراهما- على الرغم من زواجهما- يتراجعان ماكان بينهما:
بثينةُ أو أَبْدَتْ لنا جانَب البخلِ
لقد فرح الواشونَ أَنْ صرمَتْ حبلي
لآخرَ لم يعمدْ بكفٍّ ولا رِجلِ
وكم قد رأينا ساعياً بنميمةٍ
جرى الدمعُ من عَيْنَي بثينةَ بالكُحْلِ
إذا ما تراجَعْنا الذي كانَ بيننا
ولكنْ طِلابيها لما فاتَ مِنْ عقلي
ولو تركَتْ عقلي معي ماطلبتُها
ويا ويحَ أَهلي ما أُصيبَ بهِ أهلي[10])
فيا ويحَ نفسي حسب نفسي الذي بها
وفي سياق الذكرى والمراجعة للأيام الخوالي، يستطرد جميل فيتذكرها في موقف ود حميم، معلناً عن علاقته الزوجية:
حينَ يدنو الضجيعُ من عِلَلِهْ
يا خليليَّ إنَّ أُمَّ حسينٍ
جادَ فيها الربيعُ من سَبِلِهْ
روضةٌ ذاتُ حُنْوَةٍ وخُزامى
إلى أن يقول:
وشرْبنا الحلالَ من قُلَلِهْ[11])
فظلْلنا بنعمةٍ واتكأْنا
وهو مرة أخرى يؤكد علاقته الحسية معها، في أبيات تصف جمال جسدها وصفاً تفصيلياً يرشح بالشهوة والرغبة الجامحة:
بين الجوانحِ لم ينزلْ بها أَحدُ
حلَّت بثينةُ من قلبي بمنزلةٍ
تكادُ من بُدْنها في البيت تَنْخَضِدُ
رجراجةٌ رخصةُ الأطرافِ ناعمةٌ
هيفاءُ لم يَغْذُها بؤسٌ ولا وَبَد
خَدْلٌ مخلخلُها وَعْثٌ مؤزّرُها
تمَّتْ فليسَ يُرى في خَلْقِها أَوَدُ
هيفاءُ مقبلةً عجزاءُ مدبرةً
شعارَهُ حينَ يُخْشى القُرُّ والصَّرَدُ[12])
نعمَ لحافُ الفتى المقرورِ يجعلُها
وظل جميل بعد ذلك الخلاف الذي فرّق بينهما يغني حبه لبثينة الجميلة، ويصوّر شوقه إليها على الرغم مما تعرض له من نصح من إنذار من أهله وأهلها يؤكد ذلك قوله:
ومنْ بعدِ ماكنّا نِطافاً وفي المهدِ
تعلَّق روحي روحها قبل خلِقنا
وليسَ إذا متنا بمنتقضِ العهدِ
فزادَكما زِدنا فأصبحَ نامياً
كما اشتاقَ إدريسٌ إلى جنَّة الخُلْدِ
وإني لمشتاقٌ إلى ريحِ جيبها
حبيبٌ إليه في ملامتهِ رُشدي
لقد لامني فيها أَخٌ ذو قرابةٍ
ببثنةَ فيها قد تُعيدُ وقد تُبدي[13])
وقال أَفق حتى متى أَنتَ هائمٌ
ويتذكر لقاء كان جرى بينهما في إحدى الليالي وهما يتبادلان القبل والأحاديث فيقول:
على كفِّ حوراءِ المدامعِ كالبدرِ
ذكرتُ مقامي ليلةَ البانِ قابضاً
أهيمُ وفاضَ الدمعُ منّي على نحري
فكدتُ ولم أملِكْ إليها صبابةً
كليلتِنا حتى نرى ساطعَ الفجرِ
فيا ليتَ شِعري هْل أَبيتنَّ ليلةً
تجودُ علينا بالرُّضابِ وبالثّغرِ[14])
تجودَ علينا بالحديثِ وتارةً
ولكن جميلاً الذي رأيناه في الشواهد السابقة يستعيد حالات من الحب والذكرى الجميلة، والعلاقة المتحققة بين رجل وامرأة، لايلبث أن يكرّ على ماقال ويبطله مبرئاً بثينة من كل ادعاءاته السابقة؟ يقول:
مالي بمادونَ ثوبِها خَبَرُ
لا والذي تسجدُ الجِباهُ لَهُ
ماكانَ إلا الحديثُ والنظرُ[15])
ولا بفيها ولا هَمَمْتُ بِهِ
إنه قسم عظيم يبرّئ به الشاعر بثينة من كل شبهة، فهل كان ماقاله سابقاً حلماً أفاق منه فاضطر إلى أن يقسم لنا إنه لم يكن حقيقة؟ أم هو مجرد أحلام شاعر مغامر!؟. أم هو الخوف من المجتمع الذي لايسمح له بتصوير هذه المرأة المثال مبتذلة في علاقة مباشرة مع من أحبت؟
إن حصار المجتمع كان كما نؤكد دائماً أبرز من كل حقيقة أخرى وأقوى من الحب نفسه، ويكاد يكون مقابلاً للحياة نفسها. وليس أدلّ على حصار المجتمع، ورقابته الصارمة، ورفضه لهذه التجارب العاطفية من هذه الأمنيات البائسة الغريبة التي باح بها هؤلاء الشعراء، فكشفت عن رغبتهم العميقة في البعد عن المجتمع والإفلات من رقابته وحصاره، كما أكدوا بها فكرة إحصان المرأة ومنعتها، وغذّوا الإحساس العام بأنها مصونة محتشمة لايمكن أن تكون إلا في حماية، فليس يستطيع أي لسان أن ينال من عزها وشرفها في محيط أسرتها وقبيلتها ومجتمعها.
ولنبدأ بأمنية "كثير" التي تعبّر تعبيراً قوياً عن موقفه من المجتمع، ونفوره منه، ومخاصمته له ولكنها خصومة سلبية لا تملك الرفض أو المواجهة، بل تلوذ بالهرب منه برفقة الحبيبة. فهو يحسد الحيوانات في مراعيها لأنها متروكة وشأنها، ويتمنّى أن يكون هو وعزة بعيرين لرجل غني يرعيان القفر بعيدين عن المجتمع، ولعلّ وظيفة "الغني" ههنا ألاّ يلحَ هذا الغني في طلبهما، فيعيدهما إلى جوار الناس، بل هو يتمنى أن يكونا أجربين كي يضمن نفور الناس منهما وابتعادهم عنهما، ويوغل في الفرار من المجتمع حين يتمنى أن يرجمهما الناس بالحجارة إذا حملتهما مرارة العطش على الاقتراب من منهل ماء يملكه بعض الناس!! ثم يسرف في الأمنية ويحتمل الطرد والضرب والعطش على أن يكونا قريباً من البشر الذين يهرب منهم آخر المطاف!
إنه حصار المجتمع الذي دفع بالشاعر إلى هذه الأمنية القاسية، فإذا هو يفضل عالم البهائم على عالم البشر، بسبب ما يسود هذا المجتمع من قوانين أخلاقية وعرفية جائرة. يقول:
بعيرينِ نرعى في الخَلاء ونعزُبُ
ألا ليتنا يا عزُّ كنا لذي غنىً
على حُسنِها جَرباءُ تُعدي وأَجربُ
كِلانا به عَرٌّ فمن يَرَنا يقُلْ
علينا فما ننفكُّ نُرمى ونُضْرَبُ
إذا ما وردْنا منهلاً صاحَ أَهْلُهُ
فلا هو يَرعانا ولا نحنُ نُطْلَب
نكونُ بعيري ذي غنىً فيضيعُنا
ويمنعُ منا أن نُرى فيهِ نَشرب
يُطرِّدُنا الرعيانُ من كلِّ تَلعَةٍ
هجانُ وأنى مُصْعَبٌ ثم نَهربُ[16])
وَدِدْتُ وبيتِ اللهِ أَنّك بَكرةٌ
وفي شعر قيس المجنون، تطالعنا الأمنية ذاتها تقريباً، وقد تلاحقت في سلسلة من الصور الكثيفة المتتابعة المعبرة عن شيء واحد هو حدة الرقابة الاجتماعية، وشدة التضييق على المشاعر والأحاسيس، لأن قضية المرأة مرتبطة كما أشرنا بأعراف وأنماط سلوكية شديدة الأسر، والكاشفة عن رغبة عميقة واحدة هي البعد برفقة حبيبته عن البشر، فهو يتمنى أن يكون مع حبيبته شريدين في المراعي في البلدان المقفرة كالغزلان السارحة، أو أن يكونا حمامين في مفازة قفر يعيشان عيشة بسيطة مستقرة يتحقق له فيها المأوى الآمن مع من يحب، أو أن يكونا حوتين في بحر.
وفي هذه الأمنيات جميعاً تسرح عيوننا في المساحات الممتدة المفتوحة التي تشكل تعويضاً عن الطوق المجتمعي الذي يعيش فيه، وفيها جميعاً يحصّن الشاعر نفسه وحبيبته من المجتمع الإنساني تارة بالقفر وتارة بالمفازة وتارة ثالثة بالبحر، فكأن هذه كلها صور من الجرب الذي حصّن "كثيّر" نفسه وحبيبته به من الناس. ويغلو المجنون حتى يجاوز كل حدّ في أمنياته فإذا هو يرجو البعد عن الناس بعد الموت كما كان يرجوه قبله! فيتمنى أن يكون هو وحبيبته في قبر واحد معزول عن البشر!! يقول:
رياضاً من الحَوذانِ في بَلدٍ قفرِ
ألا ليتنا كنّا غزالينِ نرتعي
نطيرُ ونأوي بالعشيِّ إلى وَكْرِ
ألا ليتنا كنّا حمامَيْ مفازةٍ
إذا نحن أَمسينا نُلَجِّجُ في البحرِ
ألا ليتنا حوتانِ في البحر نرتمي
نصير إذا متْنا ضجيعينِ في قبرِ
ويا ليتنا نحيا جميعاً وليتنا
ونُقْرَنُ يومَ البعثِ والحشرِ والنشرِ[17])
ضجيعينِ في قبرٍ عن الناس مُعْزَلٍ
وماذا تمنى جميل في تعبيره عن الضيق بما يلاقيه من المجتمع ورقابته الشديدة. يا لها من أمنية غريبة وعجيبة أيضاً أن يقول:
بثينةُ لا يَخْفى عليَّ كلامُها[18])
ألا ليتني أعمى أَصمّ تقودُني
أرأيت إلى أي حد وصل إحساس هؤلاء الشعراء بالتذمر والضيق من وطأة التقاليد وجور الأعراف الاجتماعية؟
وقد لاحظ الدكتور عبد القادر القط بروز ظاهرة الشكوى من العذّال والوشاة والرقباء بروزاً يفارق ماكانت عليه في العصر الجاهلي، ويلفت النظر، قال:
"وسنرى أن الواشي والرقيب والعذول شخصيات لايكاد يغيب وجهها في شعر العذريين. وقد أفاض عروة في الحديث عن الوشاة وصوّرهم وكأنهم "شرطة" موكلّون بتعقب المحبين"[19])ثم قال:
"ومن هنا كان فشل الشعراء في حبهم برغم تقواهم، وبرغم كل الظروف المهيئة للنجاح.
وليس غريباً إذن أن تطالعنا -كما قلت- وجوه الرقباء والواشين الموكلين بتعقب هؤلاء المحبين، في كثير من قصائد الشعر العذري ومقطوعاته، بعد أن كنا لانصادفها إلا لماماً في الشعر الجاهلي"[20]).
وليس إسرافاً في التأويل أن أنّمي هذه الملاحظة، وأمتد بها، فأرى هؤلاء الوشاة والرقباء والعذال رموزاً للمجتمع، وأن حصارهم لهؤلاء العشاق هو رمز لحصار المجتمع ووطأة أعرافه وتقاليده. بل أنا أعتقد أن هذا هو ما أراده الدكتور القط، وإن لم ينص عليه نصاً صريحاً، فهو يقرن حديثه عنهم بالحديث عن المجتمع وشدة وطأته وصرامة تقاليده في مواطن متفرقة.
وحقاً لقد أسرف العذريون في الشكوى من هؤلاء الوشاة والعذال والرقباء، فأصوات العذّال تكاد تصمّ الآذان، ووجوه الرقباء لاتكاد تخطئها العين في هذا الشعر. وما أكثر ما ضاق الشعراء ذرعاً بهم، فتحدوهم، أو دعوا عليهم، أن أنكروا عليهم أفعالهم، ولكنهم ظلّوا -في أحوالِهم كلها- يتبرمون بهم، ويشعرون بوطأتهم شعوراً عميقاً. يقول جميل:
سوى أَنْ يقولوا إنني لكِ وامقُ؟
وماذا عسى الواشونَ أن يتقوَّلوا
إليَّ، وإِنْ لم تَصْفُ منكِ الخلائقُ.[21])
نعم صَدَقَ الواشونَ أنتِ حبيبةٌ
أو يقول:
وَغيَّرها الواشي، فقلتُ: لعلَّها[22])
وقالوا: نراها ياجميلُ تبدَّلَتْ
أو يقول:
وعصيتُ فيكِ وقد جَهدْنَ عواذلي[23])
وأطعتِ فيّ عواذلاً فهجرتِني
أو يقول:
يا ليتَهم وجدوا مثلَ الذي أَجِدْ[24])
وعاذلينَ ألحُّوا في محبَّتِها
وأما المجنون فقد حرّقته العواذل بل قطّعته تقطيعاً فكأنهم موكلّون به وحده دون الخلق جميعاً، يقول:
وفي زَجْرِ العواذلِ لي بَلاءُ[25])
وعاذلةٍ تقطّعُني ملاماً
ويقول:
يؤرقُني والعاذلاتُ هُجُوْعُ[26])
وكيفَ أُطيعُ العاذلاتِ وحبّها
ولم يكن حظه من الوشاة بأحسن من حظه من العاذلات، يقول:
وداري بأعلى حضرموتَ اهتدى لِيا
ولو كانَ واشٍ باليمامةِ دارُهُ
من الحظِّ في تصريمِ ليلى حِباليا[27])
وماذا لَهُمْ لا أحسنَ اللهُ حالَهُمْ
ولست أحب أن أستكثر من الشواهد، فهي تملأ قصائد هؤلاء العذريين حتى يصعب بل يستحيل على قارئ شعرهم أن يمر بها دون أن تستوقفه، وتدعوه إلى التأمل والتفكير.
وتصادفنا في هذا الشعر إشارات كثيرة متكرّرة صريحة الدلالة على طبيعة هذا المجتمع المحافظ، وعلى علاقة التنافر وسوء التكيف بين الشاعر ومجتمعه كأن يكنى الشاعر عن حبيبته باسم غيرها خشية عليها وعلى علاقته بها، أو كأن يظهر كلا المحبين للآخر بغضاً أمام الناس، أو أن توصي الحبيبة حبيبها بألا ينظر إلى نحوها إذا مرّ بدارها، بل أن ينظر إلى جهة أخرى كي يخدع الناس أو يغالطهم أو يمكر بهم، أو أن تتقنّع الفتاة عادة فإذا خشيت على حبيبها الأرصاد سفرت عن وجهها، فأدرك أن سفورها مخالف للمألوف فأنما هي تنذره، أو أن يتوعد الأهل والأقرباء هذا الحبيب، ويتنمرّون له، ويأتمرون به وقد يستعينون بالسلطان عليه، على نحو ما يظهر في قول جميل:
لكي يحسبوا أَنَّ الهوى حيث أَنظرُ
سأمنح طرفي حينَ ألقاكِ غيرَكُمْ
زيارتَكُمْ والحبُّ لا يتغيَّرُ
وأكني بأسماءٍ سواكِ وأتّقي
إذا خافَ يُبدي بُغْضَهَ حينَ يَظْهَرُ[28])
فكم قد رأينا واجداً بحبيبهِ
إذا غِبتَ عنّا وارعَهُ حين تُدْبرُ
-عَشيَّةَ قالت: لا تُضيعَنَّ سرَّنا
وظاهِرْ ببغضٍ، إِنَّ ذلك أَستُر[29])
وأَعرضْ إذا لاقيتَ عيناً تخافُها
لكي يحسبوا أَن الهوى حيثُ تنظرُ
-إذا جئتَ فامنحْ طرفَ عينيكَ غَيرنا
وهمّوا بقتلي يا بثينَ لَقُوني
-فليتَ رجالاً فيكِ قد نذروا دمي
يقولون: مَنْ هذا؟ وقد عرفوني[30])
إذا مارأَوْني طالعاً مِنْ ثنيةٍ
أو في قوله وهو يربط -على نحو مالاحظ الدكتور القط- بين الرغبة والمداراة والثكل ربطاً بديعاً:
صدوداً كأن النفسَ ليسَ تريدُها
إذا جئتُها وسطَ النساءِ منحتُها
كنظرةِ ثكلى قد أُصيبَ وحيدُها
ولي نظرةٌ بعدَ الصدودِ مِنَ الجوى
أو كما في قوله:
عليّ يميناً جاهداً لا أَزورُها
ألا حُجِبَتْ ليلى وآلى أَميرُها
أبي وأبوها خُشِّنَتْ لي صدورُها[31])
وأَوعدَني فيها رجالٌ أَبرُّهُمْ
أو كما في قول توبة بن الحميّر صاحب ليلى الأخيلية:
فقد رابني منها الغداةَ سفورُها[32])
وكنتُ إذا ما جئتُ ليلى تبرقَعَتْ
وينبغي أن أنصّ هنا على أنَّ د/عبد القادر القط قد أشار إلى هذه الملاحظات وقال فيها قولاً طيباً يستحق التنويه به قال:
"نحن إذاً أمام مجتمعٍ شديد "المحافظة" تتحجب فيه المرأة عن الرجل، وتلقي على وجهها برقعاً إذا لقيت رجلاً من غير أهلها "وكنت إذا ما جئت ليلى تبرقعت" يضطر فيه المحبون إلى أن يظهروا غير ما يبطنون، ويبدوا البغضاء لمن يحبون حتى يجنّبوا أنفسهم عداء الأهل والناس "كلانا مظهر للناس بغضاً وكل عند صاحبه مكين. وهو مجتمع تجري حياة المحبين فيه على تقاليد خاصة مرعيّة، فما ينبغي لمن يحب أن يذيع أمره بين الناس، ولا أن يقول شعراً في صاحبته يشيع بينهم، وإلا كان قد ألحق العار بصاحبته وأهلها وقبيلتها جميعاً، وحقَّ عليه أن يحرم منها إلى الأبد، وأن يستباح دمه إذا هو تعرّض لها بعد ذلك...
إلى أن يقول:
"وهكذا تقوم بينه وبين المجتمع خصومة تدور على المواجهة والتحدي، يستعين المجتمع فيها بالسلطان، ويحتمي فيها المحب بالشعر معتزاً بما يرى أهل صاحبته أنه قد جلب العار عليهم"[33]).
وإذا كانت الإشارات السابقة صريحة الدلالة على طبيعة المجتمع المحافظ، ونفور الشاعر منه، وخصومته له، فإن في الشعر العذري ظاهرة أخرى تدل هذه الدلالة نفسها إذا حاولنا تفسيرها بقليل من التأمل والتريث. وهذه الظاهرة هي "ظاهرة العطش واشتهاء الرِّي". فقارئ هذا الشعر يجد هؤلاء الشعراء عِطاشاً تقتلهم مرارة العطش والماء أمامهم لايقوون على الوصول إليه لأن السبيل إليه سبيل مهلكة كما نجد في شعر كثيّر عزة، يقول:
وعندَهُ هُوَّةٌ يَخشى بها التلفا
إنّي وإيّاك كالصادي رأى نَهَلاً
وليسَ يملِكُ دونَ الماءِ مُنْصَرَفا
رأى بعينيهِ ماءً عزَّ مورِدُهُ
لقد جفّ ريق "كثيّر" وامتلأ فمه بمرارة العطش، والماء قاب قوسين أو أدنى منه، ولكن السبيل إلى ذلك الماء مملوءة بالمخاطر، والشاعر يخشى على نفسه الهلاك إذا حاول أن ينقع غلّته من هذا الماء!! هل أسرف في التأويل إذا ظننت هذه الهوة التي يخشى الشاعر اجتيازها هي رمز للمجتمع، وأن هذا الماء هو رمز للحبيبة، وأن الصورة توحي بالذعر من الناس؟
وإذا كان "كثير" يرمز ولا يصرّح، فإن "جميل بثينة" يقرن الرمز بالتصريح، فيشير إشارة واضحة إلى الأعداء الذين حالوا دونه ودون الماء، أو دونه ودون الحبيبة. يقول:
على الماء يَخْشَيْنَ العَصِيَّ حَوَاني
وما صادياتٌ حُمْنَ يوماً وليلةً
ولا هنَّ من بَرْدِ الحياضِ دَواني
لواغِبٌ لا يَصْدُرنَ عنه لوجهةٍ
فهنَّ لأصواتِ السُقاةِ رواني
يَرَيْنَ حَباب الماء والموتُ دونَهُ
إليكِ ولكنّ العدوَّ عراني[34])
بأكثرَ مني غُلّةً وصبابةً
ونحن نجد حقاً بعض هذه العناصر العذرية مبثوثة في أرجاء متفرقة من غزل جرير وغيره من شعراء الحضر ولكن هذه العناصر لا تستفيض في أشعارهم استفاضتها في الشعر العذري.
ونخلص من ذلك كله إلى القول: إن المرأة الحبيبة كانت دون غيرها أثيرة لدى شعراء هذا العصر، فهي ربة الحسن والدلال، وهي ملهمة الشعر والإبداع، ولذلك كثر حديثهم عنها وتشّعب. أما المرأة التي كانت تمتهن بعض المهن كالتمريض أو التي تشترك في الحرب، أو المرأة الناقدة أو الراوية فلم تظفر من شعر هؤلاء الشعراء بنصيب على الرغم من وجودها في المجتمع، أستثني من هذا الحكم بعض الإشارات التي نجدها في شعر الخوارج على نحو ما سنرى.
ولست أدري علّة لذلك إلاّ ماشاع عن موقف العرب عامة من المهن وما نعرفه من حرص الشعراء منذ الجاهلية، إلا أقلّهم كالأعشى، على أن تكون حبيباتهم عربيات حرائر ثريّات منعّمات مترفات. وإذاً لاغرابة في أن يكون شعراء العصر الأموي حريصين كأسلافهم الجاهليين على أن تكون الحبيبة من سراة العرب حرّة ثريّة منعّمة مترفة لأن المجتمع الأموي -كما ذكرت مراراً- لم يزل مجتمعاً عربياً في أعماقه وروحه.
--------------------------------------------------------------------------------
[1]) سوسيولوجيا الغزل العذري: 82.
[2]) في الشعر الإسلامي والأموي: 95.
[3]) ديوان كثير: 96.
[4]) المصدر السابق: 365.
[5]) شعر الصمة القشيري: ق1
[6]) ديوان عروة بن أذينة: 139.
[7]) ديوان جميل: 11.
[8]) المصدر السابق، 18. باشرني: وصل إلي. الشعار: ضرب من الثياب، اللشري التهاب جلدي.
[9]) المصدر السابق: 62.. ذو السجوف: الأستار ويقصد الحاكم.
[10]) ديوان جميل: 66.
[11]) المصدر السابق: 69. الحنوة: نبات طيب الرائحة. الخزامى: نبات فواح أيضاً.السبل المطر. القلل: الجرة الضخمة.
[12]) ديوان جميل: 97: رجراجة: كبيرة الأرداف. الرخصة: الناعمة، تنخضد: تعجز عن النهوض. الخدل: الممتلئ. الوعث: الطري، الوبد: سوء العيش.. الأود: العوج.
[13]) المصدر السابق: 30.
[14]) المصدر السابق: 42.
[15]) المصدر السابق: 34.
[16]) ديوان كثير:161 نعزب: نبعد في المرعى عن الحي. العر: الجرب. البكرة: الناقة الفتية.الهجان: الكريمة. المصعب: الفحل من الإبل.
[17]) ديوان المجنون: 164 الحوذان: نبات طيب الطعم.
[18]) ديوان جميل: 77.
[19]) في الشعر الإسلامي والأموي: 77.
[20]) المرجع السابق: 84..
[21]) ديوان جميل: 143. وامق: عاشق.
[22]) المصدر السابق: 192.
[23]) المصدر السابق: 181.
[24]) المصدر السابق: 59.
[25]) ديوان المجنون: 42.
[26]) ديوان المجنون: 192.
[27]) المصدر السابق: 294.
[28]) ديوان جميل: 39.
[29]) المصدر السابق: 38.
[30]) ديوان جميل: 85.
[31]) المصدر السابق: 146.
[32]) ديوان ليلى الأخيلية: 21.
[33]) في الشعر الإسلامي والأموي: 84.
[34]) ديوان جميل: 205 الصاديات: العطشى. حواني: منعطفة على الماء رغبة الشرب منه. اللواغب: ج.لاغبة: وهي الضعيفة. الرواني: ج رانية وهي التي تديم النظر في سكون أي تستمع إلى أصوات السقاة. الغلة: شدة العطش وحرارته. عراني: ألم بي.
كانت التقاليد الاجتماعية أكثر بروزاً وصرامة في شعر شعراء البادية الذين عرفوا بالشعراء أو العشاق العذريين نسبة إلى قبيلة "بني عذرة" التي اشتهرت بكثرة عشاقها المتيّمين، فضمّ إليها الباحثون كل من سلك في الحب هذا المسلك وإن لم يكن منها. ولم تسمح هذه البيئة لأبنائها بالذي سمحت به الحواضر ولاسيما مدن الحجاز الطيبة، فعاش أبناء البادية في غلظة وجفاء، وتشربوا تعاليم الدين الإسلامي على ظمأ، وضاقت بهم سبل الرزق، فقد استمر الوضع الاجتماعي والاقتصادي لأبناء البادية رعوياً فقيراً على ماكان عليه في العصر الجاهلي، وظل أبناء البادية يتحمّلون قسوة الظروف من أجل تحصيل رزقهم، وبقيت أفكارهم وأحلامهم ضمن حدود مراعيهم، بعيداً عما يدور في مدن الحجاز من صخب الحضارة والمدنية ورنين الأصوات والأموال، وعمّا يدور في الحواضر الأخرى كدمشق، حيث الحكم والثراء والترف.
وقد خرج من أهل البادية كثيرون إلى الأمصار المفتوحة مجاهدين وغير مجاهدين، واستقروا فيها، كما استشهد كثير من أهلها في الفتوحات، فخلّف ذلك كله في النفوس حزناً وكآبة ومرارة.
ضمن هذه الشروط الاجتماعية عاشت المرأة في البادية، فلم تظفر بما ظفرت به أختها الحضرية من التحرر الاجتماعي، ولم تُتح لها الفرصة للتعبير عن حياتها ونفسها تعبيراً مباشراً، وإنما انعكست حياتها في رأي الشاعر العذري وفكره، وبدت "ضرورة لاغنى عنها، ورفعت إلى مستوى المثال وبولغ في تقديرها"[1])، فكانت موضوعاً لهؤلاء العذريين ومحوراً لإبداعاتهم بل كانت ملهماً لهذا الشعر ومحرضاً عليه. وقد مثل هؤلاء الشعراء نوعاً من "المواجهة" بين الحب وتقاليد المجتمع ومفهوم ذلك المجتمع عن الحب"[2])كما سنرى، فقد كانت المرأة شديدة المنعة في هذا المجتمع، وعلى من يحبها أن يحسب ألف حساب، لأن خبر حبه لها يعني نهاية قصة الغرام، وبداية اليأس والتعاسة. وتكشف قصص هذا الحب -على الرغم مما بينها من فروق- عن تجارب عاطفية مخفقة، لا تشذّ عن ذلك قصة واحدة.
فنحن في كل قصة نرى شاعراً تغنى بحبه، فكان نصيبه منه الحرمان، وظل بقية أيامه يردد أغنية الحب الأولى ويتذكرها، ويبث عبر الذكرى أمنياته، ويبوح بسريرة نفسه، ويتجه بشكواه وذكراه إلى المرأة التي أحبها متوسلاً ومتضرعاً عسى أن يكون وراء كربه وغُمته الفرج القريب.
لكن هل أصغت محبوبات هؤلاء الشعراء إلى شكواهم؟ ومامدى استجابتهن لها؟ وماذا فعلن من أجل هذه العلاقة العاطفية؟
نستطيع تصور المرأة في شعر الحب العذري امرأة مكبلة بكبولٍ ثقيلة جداً من أعراف البيئة وتقاليدها وقيمها الأخلاقية السائدة. فليس تسمح لها هذه العادات بالتفكير مفردة أو بالتحرك خارج نطاق أسرتها. وأكبر دليل على هذا أن هؤلاء المحبوبات قد تزوجن خارج تجربة العشق التي أدت إلى اشتهارهن فكان قيد الزواج أكثر صلابة وغلظة من قيد المجتمع وعاداته، فكثر في ديوان الشاعر العذري الحديث عن الصد وعدم الاستجابة، يرد في شعر كثيّر قوله:
إلينا وأمّا بالنّوالِ فَضَنَّتِ
وما أَنصفَتْ أَمّا النساءُ فبغَّضَتْ
قريشٌ غَداةَ المأزمين وصَلّتِ
فقد حَـلَفَتْ جهداً بما نَحَرَتْ لَهُ
كناذرةٍ نذراً وَفَتْ فَأَحَلَّتِ[3])
وكانت لقطعِ الحبلِ بيني وبينها
ويذكر أيضاً إعراضها وتمنعها في القصيدة ذاتها:
من الصُمِ لو تمشي بها العُصمْ زَلَّتِ
كأني أُنادي صخرةً حينَ أَعرضَتْ
وفي شكواه لها تثبيت لتضرعه وامتناعها، وعدم اشتراكها في المبادلة الوجدانية والإنسانية، وهذا ما يؤكده في قوله:
إلى ميِّتٍ في قبرِهِ لبكى لِيا
أَيا عزَّ لَوْ أشكو الذي قد أَصابني
إلى راهب في ديره لرثى ليا
ويا عزَّ لو أشكو الذي قد أصابني
إلى جبل صعب الذرى لانحنى ليا[4])
ويا عزَّ لو أشكو الذي قد أصابني
وليس حال الصمة القشيري مع حبيبته أفضل من حال كثيّر، فإنها لاتبادله مشاعره ولا تستجيب:
ولا عند ريّا للمحبِ جَزاءُ[5])
لَعْمُرُكَ ما ريّا بذاتِ أَمانةٍ
وهي كذلك عند عروة بن أذينة:
منّا وأَعجبَها البعادُ فما لَها[6])
صرمَتْ سعيدةٌ وُدَّها وخلالَها
ولكن بثينة في شعر جميل تبدو على شيء من الجرأة والإحساس بالمكانة والنّدية والمبادلة مع جميل فهما كثيراً ما يبدوان في حوار عن الأهل والوشاة ومستقبل العلاقة والعتاب. وفي أبيات غير قليلة تبدو بثينة كأنها زوجة لجميل، فهل كانت حقاً كذلك فنردّ كل ما قيل عن عذرية العلاقة التي لم يتحقق فيها الزواج؟. أم أنها أحلام جميل التي صورت له بثينة على أنها زوجة أو كما يجب أن تكون في نهاية المطاف؟ إنه يعلن في البداية عن الأمنية:
من النورِ ثم استعرضَتْها جنوبُها
فما مزنةٌ بينَ السّماكينِ أومضَتُ
من الناسِ أوباشٌ يُخَافُ شغوبُها
بأحسنَ منها يوم قالَتْ وعندنا
إلى يومِ يَلقى كلَّ نفسٍ حبيبُها
تعاييتَ فاستغنيتَ عنّا بغيرِنا
نصيبي من الدنيا وأَنيَّ نصيبُها [7])
وَدِدْتُ ولا تُغني الوِدادةُ أَنَّها
ثم نتابع أبياته بعد هذه الأمنية، التي يصرح فيها برجاء أن تكون من نصيبه، فنراه يؤكد لها أن جلداً غير جلدها لم يمسه محاولاً التأثير فيها يقول:
فإذا كنتُ فيها كاذباً فعميتُ
حلفتُ يميناً يا بثينةُ صادقاً
وباشرَني دون الشعِّارِ شريتُ[8])
إذا كانَ جلدٌ غير جلدِك مَسَّني
ويبدو أن مشكلة ماقد حصلت بينهما أدت إلى الخصومة التي أثمرت أشعار الفراق واليأس والحزن، فنراه يطلب وجود حكم من أهلها لتسوية الخلاف قبل أن يستفحل:
وشرُّ الناسِ ذو العِللِ البخيلُ
وقلتُ لها: اعتَللتِ بغيرِ ذنبٍ
وأهلِكِ لا يَحيفُ ولا يُميلُ
ففاتيني إلى حَكمٍ مِنَ أهلي
ولا يدري بنا الواشي المحولُ
فقالت أَبتغي حَكَماً مِنَ أهلي
أخا دُنيا له طرفٌ كليلٌ
فولّينا الحكومةَ ذا سجوفٍ
وأنتَ بما قضيتَ بهِ كفيلُ[9])
فقلنا: ماقضيتَ به رضينا
تظهر في الأبيات بعض التعاليم القرآنية، في الاحتكام إلى الأهل في حالة نزاع الزوجين، ونلاحظ أنها فضّلت أن يكون الحكم من أهلها، فلو لم تكن العلاقة معلنة وشرعية، فهل كانت ستطلب أن يكون الحكم من أهلها؟ هل من المألوف أن تطلب هذا الطلب لو أن العلاقة علاقة حب في هذا المجتمع البدوي المحافظ الذي يحاط فيه الحب بالكتمان والسرية عن الأهل خاصة حتى لايحول الإجهار بالعلاقة وذكر المحبوبة إلى حرمان أبدي؟
ألا يحق لنا التساؤل عن هذا؟ ثم ترد بعض الأبيات التي تشير إلى أن الخصومة قد وقعت، ولم ينفع احتكامها إلى الحكم في إصلاح ماكان من خلاف بينهما، ولم يجنيا سوى الندم المرّ على ماكان، فقد تزوجت بعدئذ، ولكننا نراهما- على الرغم من زواجهما- يتراجعان ماكان بينهما:
بثينةُ أو أَبْدَتْ لنا جانَب البخلِ
لقد فرح الواشونَ أَنْ صرمَتْ حبلي
لآخرَ لم يعمدْ بكفٍّ ولا رِجلِ
وكم قد رأينا ساعياً بنميمةٍ
جرى الدمعُ من عَيْنَي بثينةَ بالكُحْلِ
إذا ما تراجَعْنا الذي كانَ بيننا
ولكنْ طِلابيها لما فاتَ مِنْ عقلي
ولو تركَتْ عقلي معي ماطلبتُها
ويا ويحَ أَهلي ما أُصيبَ بهِ أهلي[10])
فيا ويحَ نفسي حسب نفسي الذي بها
وفي سياق الذكرى والمراجعة للأيام الخوالي، يستطرد جميل فيتذكرها في موقف ود حميم، معلناً عن علاقته الزوجية:
حينَ يدنو الضجيعُ من عِلَلِهْ
يا خليليَّ إنَّ أُمَّ حسينٍ
جادَ فيها الربيعُ من سَبِلِهْ
روضةٌ ذاتُ حُنْوَةٍ وخُزامى
إلى أن يقول:
وشرْبنا الحلالَ من قُلَلِهْ[11])
فظلْلنا بنعمةٍ واتكأْنا
وهو مرة أخرى يؤكد علاقته الحسية معها، في أبيات تصف جمال جسدها وصفاً تفصيلياً يرشح بالشهوة والرغبة الجامحة:
بين الجوانحِ لم ينزلْ بها أَحدُ
حلَّت بثينةُ من قلبي بمنزلةٍ
تكادُ من بُدْنها في البيت تَنْخَضِدُ
رجراجةٌ رخصةُ الأطرافِ ناعمةٌ
هيفاءُ لم يَغْذُها بؤسٌ ولا وَبَد
خَدْلٌ مخلخلُها وَعْثٌ مؤزّرُها
تمَّتْ فليسَ يُرى في خَلْقِها أَوَدُ
هيفاءُ مقبلةً عجزاءُ مدبرةً
شعارَهُ حينَ يُخْشى القُرُّ والصَّرَدُ[12])
نعمَ لحافُ الفتى المقرورِ يجعلُها
وظل جميل بعد ذلك الخلاف الذي فرّق بينهما يغني حبه لبثينة الجميلة، ويصوّر شوقه إليها على الرغم مما تعرض له من نصح من إنذار من أهله وأهلها يؤكد ذلك قوله:
ومنْ بعدِ ماكنّا نِطافاً وفي المهدِ
تعلَّق روحي روحها قبل خلِقنا
وليسَ إذا متنا بمنتقضِ العهدِ
فزادَكما زِدنا فأصبحَ نامياً
كما اشتاقَ إدريسٌ إلى جنَّة الخُلْدِ
وإني لمشتاقٌ إلى ريحِ جيبها
حبيبٌ إليه في ملامتهِ رُشدي
لقد لامني فيها أَخٌ ذو قرابةٍ
ببثنةَ فيها قد تُعيدُ وقد تُبدي[13])
وقال أَفق حتى متى أَنتَ هائمٌ
ويتذكر لقاء كان جرى بينهما في إحدى الليالي وهما يتبادلان القبل والأحاديث فيقول:
على كفِّ حوراءِ المدامعِ كالبدرِ
ذكرتُ مقامي ليلةَ البانِ قابضاً
أهيمُ وفاضَ الدمعُ منّي على نحري
فكدتُ ولم أملِكْ إليها صبابةً
كليلتِنا حتى نرى ساطعَ الفجرِ
فيا ليتَ شِعري هْل أَبيتنَّ ليلةً
تجودُ علينا بالرُّضابِ وبالثّغرِ[14])
تجودَ علينا بالحديثِ وتارةً
ولكن جميلاً الذي رأيناه في الشواهد السابقة يستعيد حالات من الحب والذكرى الجميلة، والعلاقة المتحققة بين رجل وامرأة، لايلبث أن يكرّ على ماقال ويبطله مبرئاً بثينة من كل ادعاءاته السابقة؟ يقول:
مالي بمادونَ ثوبِها خَبَرُ
لا والذي تسجدُ الجِباهُ لَهُ
ماكانَ إلا الحديثُ والنظرُ[15])
ولا بفيها ولا هَمَمْتُ بِهِ
إنه قسم عظيم يبرّئ به الشاعر بثينة من كل شبهة، فهل كان ماقاله سابقاً حلماً أفاق منه فاضطر إلى أن يقسم لنا إنه لم يكن حقيقة؟ أم هو مجرد أحلام شاعر مغامر!؟. أم هو الخوف من المجتمع الذي لايسمح له بتصوير هذه المرأة المثال مبتذلة في علاقة مباشرة مع من أحبت؟
إن حصار المجتمع كان كما نؤكد دائماً أبرز من كل حقيقة أخرى وأقوى من الحب نفسه، ويكاد يكون مقابلاً للحياة نفسها. وليس أدلّ على حصار المجتمع، ورقابته الصارمة، ورفضه لهذه التجارب العاطفية من هذه الأمنيات البائسة الغريبة التي باح بها هؤلاء الشعراء، فكشفت عن رغبتهم العميقة في البعد عن المجتمع والإفلات من رقابته وحصاره، كما أكدوا بها فكرة إحصان المرأة ومنعتها، وغذّوا الإحساس العام بأنها مصونة محتشمة لايمكن أن تكون إلا في حماية، فليس يستطيع أي لسان أن ينال من عزها وشرفها في محيط أسرتها وقبيلتها ومجتمعها.
ولنبدأ بأمنية "كثير" التي تعبّر تعبيراً قوياً عن موقفه من المجتمع، ونفوره منه، ومخاصمته له ولكنها خصومة سلبية لا تملك الرفض أو المواجهة، بل تلوذ بالهرب منه برفقة الحبيبة. فهو يحسد الحيوانات في مراعيها لأنها متروكة وشأنها، ويتمنّى أن يكون هو وعزة بعيرين لرجل غني يرعيان القفر بعيدين عن المجتمع، ولعلّ وظيفة "الغني" ههنا ألاّ يلحَ هذا الغني في طلبهما، فيعيدهما إلى جوار الناس، بل هو يتمنى أن يكونا أجربين كي يضمن نفور الناس منهما وابتعادهم عنهما، ويوغل في الفرار من المجتمع حين يتمنى أن يرجمهما الناس بالحجارة إذا حملتهما مرارة العطش على الاقتراب من منهل ماء يملكه بعض الناس!! ثم يسرف في الأمنية ويحتمل الطرد والضرب والعطش على أن يكونا قريباً من البشر الذين يهرب منهم آخر المطاف!
إنه حصار المجتمع الذي دفع بالشاعر إلى هذه الأمنية القاسية، فإذا هو يفضل عالم البهائم على عالم البشر، بسبب ما يسود هذا المجتمع من قوانين أخلاقية وعرفية جائرة. يقول:
بعيرينِ نرعى في الخَلاء ونعزُبُ
ألا ليتنا يا عزُّ كنا لذي غنىً
على حُسنِها جَرباءُ تُعدي وأَجربُ
كِلانا به عَرٌّ فمن يَرَنا يقُلْ
علينا فما ننفكُّ نُرمى ونُضْرَبُ
إذا ما وردْنا منهلاً صاحَ أَهْلُهُ
فلا هو يَرعانا ولا نحنُ نُطْلَب
نكونُ بعيري ذي غنىً فيضيعُنا
ويمنعُ منا أن نُرى فيهِ نَشرب
يُطرِّدُنا الرعيانُ من كلِّ تَلعَةٍ
هجانُ وأنى مُصْعَبٌ ثم نَهربُ[16])
وَدِدْتُ وبيتِ اللهِ أَنّك بَكرةٌ
وفي شعر قيس المجنون، تطالعنا الأمنية ذاتها تقريباً، وقد تلاحقت في سلسلة من الصور الكثيفة المتتابعة المعبرة عن شيء واحد هو حدة الرقابة الاجتماعية، وشدة التضييق على المشاعر والأحاسيس، لأن قضية المرأة مرتبطة كما أشرنا بأعراف وأنماط سلوكية شديدة الأسر، والكاشفة عن رغبة عميقة واحدة هي البعد برفقة حبيبته عن البشر، فهو يتمنى أن يكون مع حبيبته شريدين في المراعي في البلدان المقفرة كالغزلان السارحة، أو أن يكونا حمامين في مفازة قفر يعيشان عيشة بسيطة مستقرة يتحقق له فيها المأوى الآمن مع من يحب، أو أن يكونا حوتين في بحر.
وفي هذه الأمنيات جميعاً تسرح عيوننا في المساحات الممتدة المفتوحة التي تشكل تعويضاً عن الطوق المجتمعي الذي يعيش فيه، وفيها جميعاً يحصّن الشاعر نفسه وحبيبته من المجتمع الإنساني تارة بالقفر وتارة بالمفازة وتارة ثالثة بالبحر، فكأن هذه كلها صور من الجرب الذي حصّن "كثيّر" نفسه وحبيبته به من الناس. ويغلو المجنون حتى يجاوز كل حدّ في أمنياته فإذا هو يرجو البعد عن الناس بعد الموت كما كان يرجوه قبله! فيتمنى أن يكون هو وحبيبته في قبر واحد معزول عن البشر!! يقول:
رياضاً من الحَوذانِ في بَلدٍ قفرِ
ألا ليتنا كنّا غزالينِ نرتعي
نطيرُ ونأوي بالعشيِّ إلى وَكْرِ
ألا ليتنا كنّا حمامَيْ مفازةٍ
إذا نحن أَمسينا نُلَجِّجُ في البحرِ
ألا ليتنا حوتانِ في البحر نرتمي
نصير إذا متْنا ضجيعينِ في قبرِ
ويا ليتنا نحيا جميعاً وليتنا
ونُقْرَنُ يومَ البعثِ والحشرِ والنشرِ[17])
ضجيعينِ في قبرٍ عن الناس مُعْزَلٍ
وماذا تمنى جميل في تعبيره عن الضيق بما يلاقيه من المجتمع ورقابته الشديدة. يا لها من أمنية غريبة وعجيبة أيضاً أن يقول:
بثينةُ لا يَخْفى عليَّ كلامُها[18])
ألا ليتني أعمى أَصمّ تقودُني
أرأيت إلى أي حد وصل إحساس هؤلاء الشعراء بالتذمر والضيق من وطأة التقاليد وجور الأعراف الاجتماعية؟
وقد لاحظ الدكتور عبد القادر القط بروز ظاهرة الشكوى من العذّال والوشاة والرقباء بروزاً يفارق ماكانت عليه في العصر الجاهلي، ويلفت النظر، قال:
"وسنرى أن الواشي والرقيب والعذول شخصيات لايكاد يغيب وجهها في شعر العذريين. وقد أفاض عروة في الحديث عن الوشاة وصوّرهم وكأنهم "شرطة" موكلّون بتعقب المحبين"[19])ثم قال:
"ومن هنا كان فشل الشعراء في حبهم برغم تقواهم، وبرغم كل الظروف المهيئة للنجاح.
وليس غريباً إذن أن تطالعنا -كما قلت- وجوه الرقباء والواشين الموكلين بتعقب هؤلاء المحبين، في كثير من قصائد الشعر العذري ومقطوعاته، بعد أن كنا لانصادفها إلا لماماً في الشعر الجاهلي"[20]).
وليس إسرافاً في التأويل أن أنّمي هذه الملاحظة، وأمتد بها، فأرى هؤلاء الوشاة والرقباء والعذال رموزاً للمجتمع، وأن حصارهم لهؤلاء العشاق هو رمز لحصار المجتمع ووطأة أعرافه وتقاليده. بل أنا أعتقد أن هذا هو ما أراده الدكتور القط، وإن لم ينص عليه نصاً صريحاً، فهو يقرن حديثه عنهم بالحديث عن المجتمع وشدة وطأته وصرامة تقاليده في مواطن متفرقة.
وحقاً لقد أسرف العذريون في الشكوى من هؤلاء الوشاة والعذال والرقباء، فأصوات العذّال تكاد تصمّ الآذان، ووجوه الرقباء لاتكاد تخطئها العين في هذا الشعر. وما أكثر ما ضاق الشعراء ذرعاً بهم، فتحدوهم، أو دعوا عليهم، أن أنكروا عليهم أفعالهم، ولكنهم ظلّوا -في أحوالِهم كلها- يتبرمون بهم، ويشعرون بوطأتهم شعوراً عميقاً. يقول جميل:
سوى أَنْ يقولوا إنني لكِ وامقُ؟
وماذا عسى الواشونَ أن يتقوَّلوا
إليَّ، وإِنْ لم تَصْفُ منكِ الخلائقُ.[21])
نعم صَدَقَ الواشونَ أنتِ حبيبةٌ
أو يقول:
وَغيَّرها الواشي، فقلتُ: لعلَّها[22])
وقالوا: نراها ياجميلُ تبدَّلَتْ
أو يقول:
وعصيتُ فيكِ وقد جَهدْنَ عواذلي[23])
وأطعتِ فيّ عواذلاً فهجرتِني
أو يقول:
يا ليتَهم وجدوا مثلَ الذي أَجِدْ[24])
وعاذلينَ ألحُّوا في محبَّتِها
وأما المجنون فقد حرّقته العواذل بل قطّعته تقطيعاً فكأنهم موكلّون به وحده دون الخلق جميعاً، يقول:
وفي زَجْرِ العواذلِ لي بَلاءُ[25])
وعاذلةٍ تقطّعُني ملاماً
ويقول:
يؤرقُني والعاذلاتُ هُجُوْعُ[26])
وكيفَ أُطيعُ العاذلاتِ وحبّها
ولم يكن حظه من الوشاة بأحسن من حظه من العاذلات، يقول:
وداري بأعلى حضرموتَ اهتدى لِيا
ولو كانَ واشٍ باليمامةِ دارُهُ
من الحظِّ في تصريمِ ليلى حِباليا[27])
وماذا لَهُمْ لا أحسنَ اللهُ حالَهُمْ
ولست أحب أن أستكثر من الشواهد، فهي تملأ قصائد هؤلاء العذريين حتى يصعب بل يستحيل على قارئ شعرهم أن يمر بها دون أن تستوقفه، وتدعوه إلى التأمل والتفكير.
وتصادفنا في هذا الشعر إشارات كثيرة متكرّرة صريحة الدلالة على طبيعة هذا المجتمع المحافظ، وعلى علاقة التنافر وسوء التكيف بين الشاعر ومجتمعه كأن يكنى الشاعر عن حبيبته باسم غيرها خشية عليها وعلى علاقته بها، أو كأن يظهر كلا المحبين للآخر بغضاً أمام الناس، أو أن توصي الحبيبة حبيبها بألا ينظر إلى نحوها إذا مرّ بدارها، بل أن ينظر إلى جهة أخرى كي يخدع الناس أو يغالطهم أو يمكر بهم، أو أن تتقنّع الفتاة عادة فإذا خشيت على حبيبها الأرصاد سفرت عن وجهها، فأدرك أن سفورها مخالف للمألوف فأنما هي تنذره، أو أن يتوعد الأهل والأقرباء هذا الحبيب، ويتنمرّون له، ويأتمرون به وقد يستعينون بالسلطان عليه، على نحو ما يظهر في قول جميل:
لكي يحسبوا أَنَّ الهوى حيث أَنظرُ
سأمنح طرفي حينَ ألقاكِ غيرَكُمْ
زيارتَكُمْ والحبُّ لا يتغيَّرُ
وأكني بأسماءٍ سواكِ وأتّقي
إذا خافَ يُبدي بُغْضَهَ حينَ يَظْهَرُ[28])
فكم قد رأينا واجداً بحبيبهِ
إذا غِبتَ عنّا وارعَهُ حين تُدْبرُ
-عَشيَّةَ قالت: لا تُضيعَنَّ سرَّنا
وظاهِرْ ببغضٍ، إِنَّ ذلك أَستُر[29])
وأَعرضْ إذا لاقيتَ عيناً تخافُها
لكي يحسبوا أَن الهوى حيثُ تنظرُ
-إذا جئتَ فامنحْ طرفَ عينيكَ غَيرنا
وهمّوا بقتلي يا بثينَ لَقُوني
-فليتَ رجالاً فيكِ قد نذروا دمي
يقولون: مَنْ هذا؟ وقد عرفوني[30])
إذا مارأَوْني طالعاً مِنْ ثنيةٍ
أو في قوله وهو يربط -على نحو مالاحظ الدكتور القط- بين الرغبة والمداراة والثكل ربطاً بديعاً:
صدوداً كأن النفسَ ليسَ تريدُها
إذا جئتُها وسطَ النساءِ منحتُها
كنظرةِ ثكلى قد أُصيبَ وحيدُها
ولي نظرةٌ بعدَ الصدودِ مِنَ الجوى
أو كما في قوله:
عليّ يميناً جاهداً لا أَزورُها
ألا حُجِبَتْ ليلى وآلى أَميرُها
أبي وأبوها خُشِّنَتْ لي صدورُها[31])
وأَوعدَني فيها رجالٌ أَبرُّهُمْ
أو كما في قول توبة بن الحميّر صاحب ليلى الأخيلية:
فقد رابني منها الغداةَ سفورُها[32])
وكنتُ إذا ما جئتُ ليلى تبرقَعَتْ
وينبغي أن أنصّ هنا على أنَّ د/عبد القادر القط قد أشار إلى هذه الملاحظات وقال فيها قولاً طيباً يستحق التنويه به قال:
"نحن إذاً أمام مجتمعٍ شديد "المحافظة" تتحجب فيه المرأة عن الرجل، وتلقي على وجهها برقعاً إذا لقيت رجلاً من غير أهلها "وكنت إذا ما جئت ليلى تبرقعت" يضطر فيه المحبون إلى أن يظهروا غير ما يبطنون، ويبدوا البغضاء لمن يحبون حتى يجنّبوا أنفسهم عداء الأهل والناس "كلانا مظهر للناس بغضاً وكل عند صاحبه مكين. وهو مجتمع تجري حياة المحبين فيه على تقاليد خاصة مرعيّة، فما ينبغي لمن يحب أن يذيع أمره بين الناس، ولا أن يقول شعراً في صاحبته يشيع بينهم، وإلا كان قد ألحق العار بصاحبته وأهلها وقبيلتها جميعاً، وحقَّ عليه أن يحرم منها إلى الأبد، وأن يستباح دمه إذا هو تعرّض لها بعد ذلك...
إلى أن يقول:
"وهكذا تقوم بينه وبين المجتمع خصومة تدور على المواجهة والتحدي، يستعين المجتمع فيها بالسلطان، ويحتمي فيها المحب بالشعر معتزاً بما يرى أهل صاحبته أنه قد جلب العار عليهم"[33]).
وإذا كانت الإشارات السابقة صريحة الدلالة على طبيعة المجتمع المحافظ، ونفور الشاعر منه، وخصومته له، فإن في الشعر العذري ظاهرة أخرى تدل هذه الدلالة نفسها إذا حاولنا تفسيرها بقليل من التأمل والتريث. وهذه الظاهرة هي "ظاهرة العطش واشتهاء الرِّي". فقارئ هذا الشعر يجد هؤلاء الشعراء عِطاشاً تقتلهم مرارة العطش والماء أمامهم لايقوون على الوصول إليه لأن السبيل إليه سبيل مهلكة كما نجد في شعر كثيّر عزة، يقول:
وعندَهُ هُوَّةٌ يَخشى بها التلفا
إنّي وإيّاك كالصادي رأى نَهَلاً
وليسَ يملِكُ دونَ الماءِ مُنْصَرَفا
رأى بعينيهِ ماءً عزَّ مورِدُهُ
لقد جفّ ريق "كثيّر" وامتلأ فمه بمرارة العطش، والماء قاب قوسين أو أدنى منه، ولكن السبيل إلى ذلك الماء مملوءة بالمخاطر، والشاعر يخشى على نفسه الهلاك إذا حاول أن ينقع غلّته من هذا الماء!! هل أسرف في التأويل إذا ظننت هذه الهوة التي يخشى الشاعر اجتيازها هي رمز للمجتمع، وأن هذا الماء هو رمز للحبيبة، وأن الصورة توحي بالذعر من الناس؟
وإذا كان "كثير" يرمز ولا يصرّح، فإن "جميل بثينة" يقرن الرمز بالتصريح، فيشير إشارة واضحة إلى الأعداء الذين حالوا دونه ودون الماء، أو دونه ودون الحبيبة. يقول:
على الماء يَخْشَيْنَ العَصِيَّ حَوَاني
وما صادياتٌ حُمْنَ يوماً وليلةً
ولا هنَّ من بَرْدِ الحياضِ دَواني
لواغِبٌ لا يَصْدُرنَ عنه لوجهةٍ
فهنَّ لأصواتِ السُقاةِ رواني
يَرَيْنَ حَباب الماء والموتُ دونَهُ
إليكِ ولكنّ العدوَّ عراني[34])
بأكثرَ مني غُلّةً وصبابةً
ونحن نجد حقاً بعض هذه العناصر العذرية مبثوثة في أرجاء متفرقة من غزل جرير وغيره من شعراء الحضر ولكن هذه العناصر لا تستفيض في أشعارهم استفاضتها في الشعر العذري.
ونخلص من ذلك كله إلى القول: إن المرأة الحبيبة كانت دون غيرها أثيرة لدى شعراء هذا العصر، فهي ربة الحسن والدلال، وهي ملهمة الشعر والإبداع، ولذلك كثر حديثهم عنها وتشّعب. أما المرأة التي كانت تمتهن بعض المهن كالتمريض أو التي تشترك في الحرب، أو المرأة الناقدة أو الراوية فلم تظفر من شعر هؤلاء الشعراء بنصيب على الرغم من وجودها في المجتمع، أستثني من هذا الحكم بعض الإشارات التي نجدها في شعر الخوارج على نحو ما سنرى.
ولست أدري علّة لذلك إلاّ ماشاع عن موقف العرب عامة من المهن وما نعرفه من حرص الشعراء منذ الجاهلية، إلا أقلّهم كالأعشى، على أن تكون حبيباتهم عربيات حرائر ثريّات منعّمات مترفات. وإذاً لاغرابة في أن يكون شعراء العصر الأموي حريصين كأسلافهم الجاهليين على أن تكون الحبيبة من سراة العرب حرّة ثريّة منعّمة مترفة لأن المجتمع الأموي -كما ذكرت مراراً- لم يزل مجتمعاً عربياً في أعماقه وروحه.
--------------------------------------------------------------------------------
[1]) سوسيولوجيا الغزل العذري: 82.
[2]) في الشعر الإسلامي والأموي: 95.
[3]) ديوان كثير: 96.
[4]) المصدر السابق: 365.
[5]) شعر الصمة القشيري: ق1
[6]) ديوان عروة بن أذينة: 139.
[7]) ديوان جميل: 11.
[8]) المصدر السابق، 18. باشرني: وصل إلي. الشعار: ضرب من الثياب، اللشري التهاب جلدي.
[9]) المصدر السابق: 62.. ذو السجوف: الأستار ويقصد الحاكم.
[10]) ديوان جميل: 66.
[11]) المصدر السابق: 69. الحنوة: نبات طيب الرائحة. الخزامى: نبات فواح أيضاً.السبل المطر. القلل: الجرة الضخمة.
[12]) ديوان جميل: 97: رجراجة: كبيرة الأرداف. الرخصة: الناعمة، تنخضد: تعجز عن النهوض. الخدل: الممتلئ. الوعث: الطري، الوبد: سوء العيش.. الأود: العوج.
[13]) المصدر السابق: 30.
[14]) المصدر السابق: 42.
[15]) المصدر السابق: 34.
[16]) ديوان كثير:161 نعزب: نبعد في المرعى عن الحي. العر: الجرب. البكرة: الناقة الفتية.الهجان: الكريمة. المصعب: الفحل من الإبل.
[17]) ديوان المجنون: 164 الحوذان: نبات طيب الطعم.
[18]) ديوان جميل: 77.
[19]) في الشعر الإسلامي والأموي: 77.
[20]) المرجع السابق: 84..
[21]) ديوان جميل: 143. وامق: عاشق.
[22]) المصدر السابق: 192.
[23]) المصدر السابق: 181.
[24]) المصدر السابق: 59.
[25]) ديوان المجنون: 42.
[26]) ديوان المجنون: 192.
[27]) المصدر السابق: 294.
[28]) ديوان جميل: 39.
[29]) المصدر السابق: 38.
[30]) ديوان جميل: 85.
[31]) المصدر السابق: 146.
[32]) ديوان ليلى الأخيلية: 21.
[33]) في الشعر الإسلامي والأموي: 84.
[34]) ديوان جميل: 205 الصاديات: العطشى. حواني: منعطفة على الماء رغبة الشرب منه. اللواغب: ج.لاغبة: وهي الضعيفة. الرواني: ج رانية وهي التي تديم النظر في سكون أي تستمع إلى أصوات السقاة. الغلة: شدة العطش وحرارته. عراني: ألم بي.
عبدالرحمن جكسا- عدد المساهمات : 12
نقاط : 32
تاريخ التسجيل : 20/03/2012
العمر : 36
الموقع : الرياض
مواضيع مماثلة
» لمحات من المجتمع الجزيرابى1 مقتبس من سودانيز
» الراتب- تركيبة الجيوش المهدية-عنبر جودة- ملامح من المجتمع الجزيرابى (مقتبسة) ارجو قراءتها وفهرستها حسن ابواب الموقع
» الراتب- تركيبة الجيوش المهدية-عنبر جودة- ملامح من المجتمع الجزيرابى (مقتبسة) ارجو قراءتها وفهرستها حسن ابواب الموقع
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى